الالتزام بالتسبيب في إطار النظرية العامة للعقد

المؤلف

الدمياطي، تامر محمد

المصدر

مجلة القانون و الاقتصاد

العدد

المجلد 2021، العدد 94 (31 يوليو/تموز 2021)، ص ص. 135-260، 126ص.

الناشر

جامعة القاهرة كلية الحقوق

تاريخ النشر

2021-07-31

دولة النشر

مصر

عدد الصفحات

126

التخصصات الرئيسية

القانون

الموضوعات

الملخص AR

المقدمــــةجوهر التصرف القانونى هو الإرادة، فهى لحمته و سداه، و الإرادة بدورها عبارة عن اختلاجة نفسية داخلية يجب التعبير عنها في العالم الخارجى على نحو يرضاه القانون، وأن تتوافر لها شروط تضمن صحتها في نظره، حتى يستقيم عودها و يقوم بنيانها، و يطيب بناء العقد، و يحقق النفع الاقتصادى لأطرافه.

بيد أن هذه الإرادة لا تنبت من فراغ أو عدم، بل لا بد لها من باعث Mobile([1]) مشروع يدفعها و يستحثها على إبرام العقد، بما يحمله بين جنباته من رغبات وغايات المتعاقدين، و يغدو بها نحو سلوك سبيل العقد([2]).

ومع ذلك نجد أن العقد يستمد قوته الملزمة من توافق إرادات طرفيه على إبرامه، دون وجود إلزام على طرفيه بتسبيب هذه الإرادة، أو الإعلان عن دوافعها، و ينبع ذلك من حرصهما دائما على الحفاظ على أسرار و كوامن العملية التعاقدية من تطفل الغير، و غالبا ما يجدان في ذلك ضمانة لإتمام التعاقد و الحصول على المنفعة المبتغاة منه، بل يصل الأمر بكل منهما في كثير من الأحيان إلى تفضيل عدم البوح للطرف الآخر بالأسباب التى دفعته للتعاقد؛ فالاتفاق على العناصر الأساسية و حصول الأطراف على المنفعة، كان يبدو منسجما مع الغاية من و راء إبرام العقد، مما كان يغنى عن التزام المتعاقد بتسبيب التعبير عن إرادته، وفقا للقواعد العامة، أو بمعنى أدق، لم يكن هناك حاجة في ظل هذا الوضع – و عدم تشعب العلاقات التعاقدية - للاهتمام بهذا الالتزام، فالأسباب أو البواعث تظل عادة خارج إطار العقد كامنة في النفس طالما لم يتم التعبير عنها([3]).

غير أن تطور الحياة الاقتصادية أدى إلى ظهور علاقات تعاقدية تتميز بعدم التوازن بين طرفيها، نتيجة وجود طرف قوي في العلاقة التعاقدية، قد يملك من مقومات القوة التعاقدية ما يسمح له بتحديد عناصر العقد أو يقرر مصيره، إنهاء أو استمرارا، بإرادته المنفردة([4])، وفي هذه المنطقة بالذات تبدو الهوة العميقة بين صلاحيات المتعاقدين، و يثور التساؤل حول ترك المتعاقد لمحض إرادته، التى تدفعها مصالحه، دون حدود و رقابة، أم يكون من حسن الصنعة القانونية إلزامه بتسبيب تصرفه.

- تجاهل نظرية العقد لفكرة الالتزام بالتسبيب: رغم الغموض الذي يحيط بأصل فكرة التسبيب، فالمعروف أنها ليست فكرة جديدة على رجال القانون، فقد ارتبطت في أذهانهم - منذ وقت طويل - بتسبيب الأحكام القضائية([5])، ثم ما لبثت أن اقترنت أيضا بتسبيب القرارات الإدارية في نطاق القانون العام، و لهذا أصبح التسبيب ضمانة جوهرية من ضمانات تحقيق العدالة، و بهذه المثابة فهو "يمثل القلب النابض للقضاء، الذى لا يمكن أن يوجد بدونه، بل هو القلب النابض للقانون نفسه"([6]).

فالتسبيب ظل - لفترة طويلة - راسخا في الأذهان، بأنه يعنى الترجمة الصادقة للحكم، و اللازم لقبوله و مشروعيته؛ حيث يكفل إقناع الخصوم بصحة و عدالة الحكم، إذ إن اطلاعهم على أسبابه يولد لديهم قناعة بصحته و عدالته، و يدفعهم للثقة بأن الحكم لم يكن وليد أهواء أو أغراض، و إنما صدر بعد بحث و استنتاج و تمحيص للوقائع، كما أنه ثانيا حق طبيعي للخصوم، بوصفه أداة لتفعيل الحقوق الأخرى و ضابطا يحمي الحقوق الفردية، و يدافع عن الحريات الشخصية.

و رغم رسوخ فكرة التسبيب في إطار الأحكام القضائية، حيث نالت حظا وفيرا من التنظيم التشريعى و التناول الفقهى و القضائى([7])، إلا أنها ليست حكرا على القانون الإجرائى، فالقانون الموضوعى يعرفها أيضا، و إن اختلف مدلولها و ضاق نطاقها فيه، "فالمفهوم العام للتسبيب يبقى و احدا، من ناحية ما يعنيه من أن يكون القرار مسببا، سواء أكان القرار المقصود هو قرار القاضى، أم كان قرارا من أحد المتعاقدين في الرابطة العقدية"([8]).

و مع هذا، بدا هناك تجاهل كامل للتسبيب في الإطار التعاقدى، أى التسبيب غير القضائى motivation non juridictionnelle، إذ ظلت النظرية العامة للعقد بعيدة عن هذه الفكرة، ولم يعرها الفقه اهتمامه إلا مؤخرا، رغم الومضات التى أطلقها البعض منذ فترة زمنية طويلة، حيث ذهب الفقيه إجزافييه لاجارد Xavier Lagarde – قبل عشرين عاما - إلى أن "مسألة تسبيب التصرفات القانونية، على ما يبدو، لم يتم تناولها على الإطلاق بشكل مباشر؛ إذ كان يتم تناولها بشكل عابر في بعض الأطروحات و المقالات"([9]).

و هذا بلا شك يوضح سبب غياب التنظيم التشريعى للالتزام بالتسبيب في البيئة التعاقدية، لدرجة التفات القانون المدنى عن استخدام مصطلح «التسبيب motivation» أو حتى مصطلح «الباعث motif»، سواء في تكوين العقد أو في زواله، و تأخر الفقه و القضاء كثيرا في تناوله و تفصيل حدوده و ضوابطه، رغم أهميته.

و رغم جمود القواعد العامة في إقرار الالتزام بالتسبيب في العقود، إلا أن ذلك لم يحد من إمكانية قبوله في بعض الأحوال، فلا يوجد ما يمنع المتعاقد من تسبيب التزامه طواعية، كما يجوز الاتفاق بين المتعاقدين على اشتراط التسبيب، و هو مسلك يفيد بلاشك متى ثار نزاع أمام القاضى، إذ يكون المتعاقد قد أعرب مقدما عن بيان الأسباب التى دفعته لإبرام التصرف، كما يساهم في بث الطمأنينة لدى المتعاقد الآخر من حيث مراعاة مصالحه في هذه الحالة([10]).

و لكن في تطور لافت للنظر بدأ هذا الالتزام يحظى بقدر من الاهتمام، حين جرى تنظيمه في بعض القواعد المنظمة للعقود الخاصة Contrats spéciaux؛ وأول ما يتبادر إلى الذهن منها هو أحكام عقد العمل التى تفرض التزاما على رب العمل بتسبيب قرار فصل العامل motiver le licenciement، سواء أكان ذلك مبنيا على سبب شخصى([11]) أم اقتصادى([12])، لضمان عدم تعسفه و التيقن من نزاهة قراره، كما تفرض أحكام الإيجار التجارى، في فرنسا، على المؤجر اشتراط تسبيب بعض تصرفاته القانونية في مواجهة المستأجر([13]).

و من ثم، يبدو أن الالتزام بالتسبيب ليس أمرا جديدا أو غريبا على نظرية العقد، و إنما غالبا ما نجد له جذورا راسخة في تربة العلاقات التعاقدية المبنية على تفاوت الصلاحيات الممنوحة لأحد المتعاقدين في مواجهة الآخر([14]).

وقد أدى انتشار هذه النصوص القانونية إلى حث الفقه الفرنسى على التساؤل حول مدى إمكانية استيعاب القواعد العامة للعقد للالتزام بالتسبيب، أو على الأقل بالنسبة لطائفة معينة من العقود يطلق عليها عقود التبعية contrats de dépendance، التى يكون فيها لأحد المتعاقدين سلطة تحديد أو تعديل مضمون العقد أو حتى إنهاؤه دون الرجوع للمتعاقد الآخر، أى بإرادته المنفردة unilatéralement ([15])، و التى باتت ساحة خصبة لتجاوزات الطرف القوي في العلاقة العقدية.

و مناط هذا التساؤل حقيقة هو أن الالتزام بالتسبيب يؤدى دورا مهما في حماية مصلحة الطرف الضعيف، عبر تنظيم عبء الإثبات بما يتسق مع توزيع الصلاحيات في العقد، و يواجه التعسف و يعمل على تحقيق التوازن العقدى([16]).

و صحيح أن بعض الأنظمة القانونية لا تفرض الالتزام بالتسبيب في المجال التعاقدى، إلا أن ذلك لا يحول دون تطوير هذا الالتزام في إطار العقد، فهو أداة يتعين اللجوء إليها حينما يوجد اختلال في توازن العقد، على نحو يتطلب النظر في بواعث طرفيه([17]).


([1]) يقصد بالباعث، "كل التصورات السابقة التى تحدد نشأة التصرف القانونى باعتباره عملا إراديا، فيدخل في ذلك كل المقاصد و الأغراض البعيدة، و التصورات بالنسبة لوقائع معينة، التى تكون أساس الخطة التى يعتبر التصرف القانونى أحد عوامل تنفيذها".

راجع: د.

عبد الودود يحيى: نظرية الغلط في القانون المدنى الألمانى، مجلة القانون و الاقتصاد، جامعة القاهرة، العدد 39، 1969، ص 456.

و للباعث أثر حاسم على إرادة المتعاقد، فهو في الواقع، الحافز أو الدافع له على الالتزام، و يتصل، من ثم، بالالتزام اتصال العلة بالمعلول أو السبب بالمسبب.

راجع: د.

محمود جمال الدين زكى: الوجيز في نظرية الالتزام في القانون المدنى المصرى، الجزء الأول: في مصادر الالتزام، مطبعة لجنة التأليف و الترجمة و النشر، القاهرة، 1968، ص 90، هامش1.

([2]) الباعث أو الدافع في حد ذاته باعتباره عنصرا خارجيا عن العقد extrinseque، قد لا يذكر في الاتفاق ضرورة، فهو خلجة نفسية تتولد في نفس المتعاقد تحثه على التعاقد، إبراما أو فسخا أو انقضاء، و هو أمر شخصى subjectif للمتعاقد، إذ يرجع إلى نواياه و ما يتأثر به من دوافع، و هو شيء متغير variable، يختلف من عقد إلى آخر و من متعاقد لآخر، و بحسب الدوافع الخاصة به.

راجع: د.

عبد الرزاق السنهورى: الوسيط في شرح القانون المدنى، الجزء الأول: نظرية الالتزام بوجه عام، مصادر الالتزام، تنقيح المستشار/ أحمد مدحت المراغى، طبعة نادى قضاة مجلس الدولة، 2008، فقرة 263، ص 362.

([3])HOUTCIEFF (Dimitri): La motivation en droit des contrats، Revue de droit d'Assas، Université Panthéon-Assas et Lextenso éditions، no 19، Décembre 2019، no 3، p.

36.

([4]) يخول القانون في بعض الأحيان صلاحيات تعاقدية تسمح لأحد الأطراف بتحديد عناصر العقد بالإرادة المنفردة (الثمن، و الكمية، و المحل، و ما إلى ذلك) أو اتخاذ قرار في شأن مصير العقد (إنهاء العقد المبرم لفترة محددة، أو عدم تجديد العقد في نهاية المدة.

.

) وقد يتعارض ذلك مع مصلحة الطرف الآخر.

في هذا الصدد، انظر: FERRIER (Didier): Une obligation de motiver، Revue des contrats، LGDJ، no 2، 1 avril 2004، no 1، p.

561.

([5]) أصبح الالتزام بتسبيب الأحكام القضائية الآن مبدأ إجرائيا عاما اكتسب قيمة دستورية في كافة دول العالم.

لمزيد من التفصيل في هذا الشأن، راجع: د.

عزمى عبد الفتاح عطية: تسبيب الأحكام و أعمال القضاة في المواد المدنية و التجارية، دار النهضة العربية، الطبعة الرابعة، 2008.

([6]) HOUTCIEFF (D.

): La motivation en droit des contrats، op.

cit.

، p.

35.

ويشير في هذا الصدد إلى الصياغة الطريفة التى عبر عنها "ليون هوسون Léon HUSSON"، بقوله إن: القانون يبدأ "في الوقت الذي يجتهد فيه الذئب، في قصص الحيوانات الخرافية الشهيرة، بدلا من أن يأكل الحمل دون تفسير، أن يبدى للحمل الأسباب التي تخول له أن يأكله".

HUSSON (Léon): Compte-rendu، in Nouvelles études sur la pensée juridique، Dalloz، Paris، Collection Philosophie du droit، 1974، p.

130.

([7]) نلاحظ أن مصطلح التسبيب ترسخ في الأذهان مقترنا بتسبيب الأحكام، لدرجة أنه هو المعنى الوحيد الذى يعتمده معجم كورنو Cornuلمصطلح التسبيب.

CORNU (Gérard): Vocabulaire juridique، Association Henri CAPITANT، QUADRIGE/PUF، Paris، 8e éd.

، 2009، p.

600، vo.

Motivation.

([8]) راجع: د.

محمد حسن قاسم: فسخ العقد بالإرادة المنفردة، قراءة في التوجهات القضائية و التشريعية الحديثة، دار الجامعة الجديدة، 2016، ص 187، هامش 355.

([9])LAGARDE (Xavier): La motivation des actes juridiques، in La motivation، Travaux de l'Association Henri CAPITANT، Journées nationales، Limoges، t.

III، LGDJ، 2000، p.

73 ets.

([10]) في هذا الصدد، راجع: REVET (Thierry): L’obligation de motiver une décision contractuelle unilatérale، instrument de vérification de la prise en compte de l’intérêt de l’autre partie، Revue des contrats، LGDJ، no 2، 1 avril 2004، p.

579، spéc.

no 7.

([11]) تنص المادة L1232-6 من قانون العمل الفرنسى (المعدلة بالمادة 11 من القانون رقم 217 لسنة 2018 الصادر في 29 مارس 2018) على أن: "عندما يقرر رب العمل فصل العامل، فلابد أن يخطره بقراره بخطاب مسجل موصى عليه بعلم الوصول.

و يجب أن يتضمن هذا الخطاب بيان الأسباب التى يستند إليها رب العمل.

.

.

".

([12]) يجرى نص الفقرة الأولى من المادة L.

1233-16 من قانون العمل الفرنسى، سالف الإشارة إليه، على ما يلى: "يجب أن يتضمن قرار فصل العامل بيان الأسباب الاقتصادية التى يستند إليها رب العمل".

([13]) يشار في هذا الصدد إلى أنه وفقا للمادة L.145-17 من قانون التجارة الفرنسى، يجوز للمؤجر رفض تجديد الإيجار التجارى دون مطالبته بأى تعويض، متى استطاع أن يبدى سببا جادا و مشروعا حيال المستأجر.

([14]) HOUTCIEFF (D.

): La motivation en droit des contrats، op.

cit.

، no 2، p.

35.

([15]) FABRE-MAGNAN (Muriel): Pour la reconnaissance d’une obligation de motiver la rupture des contrats de dépendance économique، Revue des contrats، no 2، 1 avril 2004، p.

573 et s; REVET (Thierry): Les apports au droit des relations de dépendance، in La détermination du prix، coll.

Thémis et commentaires، Dalloz، 1997، p.

37.

([16]) REVET (Th.

): L’obligation de motiver une décision contractuelle unilatérale، op.

cit.

، spéc.

no 7.

([17]) وقد عبر عن ذلك بعض الفقه بقوله إن: الالتزام بالتسبيب يسود في المسائل التعاقدية L'obligation de motivation gagne la matière contractuelle".

REVET (Th.

): L’obligation de motiver une décision contractuelle unilatérale، op.

cit.

، p.

579، no 3.

وفي هذا الشأن، انظر أيضا: FABRE-MAGNAN (Muriel): L’obligation de motivation en droit des contrats، in Études offertes à Jacques GHESTIN، Le contrat au début du XXIème siècle، LGDJ، 2001، p.

306 ets; LAGARDE (X.

): La motivation des actes juridiques، op.

cit.

، p.77.

نمط استشهاد جمعية علماء النفس الأمريكية (APA)

الدمياطي، تامر محمد. 2021. الالتزام بالتسبيب في إطار النظرية العامة للعقد. مجلة القانون و الاقتصاد،مج. 2021، ع. 94، ص ص. 135-260.
https://search.emarefa.net/detail/BIM-1354060

نمط استشهاد الجمعية الأمريكية للغات الحديثة (MLA)

الدمياطي، تامر محمد. الالتزام بالتسبيب في إطار النظرية العامة للعقد. مجلة القانون و الاقتصاد ع. 94 (تموز 2021)، ص ص. 135-260.
https://search.emarefa.net/detail/BIM-1354060

نمط استشهاد الجمعية الطبية الأمريكية (AMA)

الدمياطي، تامر محمد. الالتزام بالتسبيب في إطار النظرية العامة للعقد. مجلة القانون و الاقتصاد. 2021. مج. 2021، ع. 94، ص ص. 135-260.
https://search.emarefa.net/detail/BIM-1354060

نوع البيانات

مقالات

لغة النص

العربية

الملاحظات

-

رقم السجل

BIM-1354060