الولاية الجنائية العالمية : دراسة مقارنة

الملخص AR

المبادئ هو تكريس لإرادة و سيادة الدولة على المستوى الدولي حفاظا على مصالحها الخاصة.

بيد أن معايير الاختصاص القضائي التي تشي بها هذه المبادئ التقليدية تكشف عن أن المصلحة محل الحماية لا تعدو إلا أن تكون مصلحة الدولة بذاتها أو مصلحة مواطنيها كمجني عليهم، أو الحيلولة دون إفلات رعاياها من العقاب حال ارتكاب جرم خارج الإقليم الوطني دون أن يحاكموا و يستوفوا عقابهم في الخارج؛ فهي بالجملة مصالح فردية للدولة، الأمر الذي لا يتجاوب البتة مع ما ظهر من مصالح دولية مشتركة تتجاوز في العادة حدود الدولة و ارتباطاتها بالجناة أو المجني عليهم في الجريمة، و يأتي على رأسها حفظ السلم و الأمن العالمي الذي يعد وبلا جدال من أهم المصالح الجوهرية و القيم الحيوية التي يحرص عليها المجتمع الدولي المعاصر، الأمر الذي يقتضى أحيانا مد فكرة الاختصاص الجنائي للدولة خارج هذا الإطار التقليدي في فكرة الاختصاص القضائي الجنائي.

وهكذا برزت إلى السطح فكرة منح الدول في إطار اختصاصها الداخلي لمحاكمها الجنائية صلاحية تتبع و ملاحقة مرتكبي بعض الجرائم ذات الطابع الدولي شديدة الجسامة و التي تقع عدوانا على المصالح المشتركة للجماعة الدولية([1])، و بالأخص الحياة الإنسانية، و الكرامة الإنسانية و السلامة الجسدية، بغض النظر عن مكان ارتكاب الجريمة أو جنسية أطرافها، جناة أو مجني عليهم؛ فكل ما قد يلزم في منح هذه الصلاحية للدولة هو أن يتم القبض على مرتكب الجريمة على الإقليم الوطني.

و لقد أصبح هذا النمط من الاختصاص - الذي أسماه الفقيه الفرنسي Donnedieu de Vabres عالمية الحق في العقاب L’universalité du droit de punir» - أو مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي([2]) Le principe de la compétence universelle، قرين مسئولية الدول جمعاء في تتبع الجرائم الدولية و الحيلولة دون إفلات مرتكبيها من العقاب، دون أن يخل كل ذلك بما للمحاكم الدولية من اختصاص في هذا الشأن([3]).

وخلال صفحات هذا البحث سوف نطرح عدة تساؤلات حول إعمال مبدأ الولاية الجنائية العالمية، أهمها: بيان الأساس القانوني الذي يبنى عليه التكريس الوطني لهذا المبدأ في التشريع الجنائي الداخلي، و تبيان شروط إعماله في ضوء التجارب التشريعية المقارنة، و تحليل النطاق الذي يمكن أن يمتد إليه تطبيق هذا المبدا، ثم أي آلية يمكن اللجوء إليها عند تبني هذا المبدأ من قبل المشرع الوطني؟ ومن هنا تظهر أهمية معالجة هذا الموضوع، كون أن تكريس مبدأ الولاية الجنائية العالمية في التشريع الوطني يتدارك كل ضعف بشأن آليات الملاحقة الجنائية الدولية في تتبع مرتكبي الجرائم الدولية شديدة الجسامة.

و لعل هذا الأمر يزداد بالنسبة لدائرتنا العربية، التي تشهد العديد من مناطقها الكثير من الانتهاكات المكونة للعديد من الجرائم الدولية كما نشهدها في فلسطين و سوريا و لييبا و العراق، فنكون نحن الأولى بتنبني هذا المبدأ ليكون سلاحا بيد القضاء الوطني لملاحقة مرتكبي هذه الانتهاكات، دون حاجة إلى اللجوء إلى القضاء الأجنبي أو المحاكم الجنائية الدولية.

ثانيا: النطاق الموضوعي للبحث: لما كان مبدأ الولاية الجنائية العالمية يمثل خروجا على المعايير التقليدية لاختصاص القضاء الجنائي الوطني، و يمنح الدولة سلطة ملاحقة جريمة لا تربطها بها صلة مباشرة، وقد وقعت تلك الأخيرة على إقليم دولة أخرى، فكان لزاما أن يقتصر النطاق الموضوعي لمبدأ الولاية الجنائية العالمية موضوع بحثنا على منح هذه الصلاحية على أحوال الجرائم شديدة الخطورة التي يمثل التراخي في ملاحقتها ضررا جسيما بكامل الجماعة الإنسانية و الحقوق الأساسية للفرد، و هكذا كاد يتحدد النطاق الذي يباشر فيه هذا الاختصاص بتلك الجرائم ذات الطابع الدولي المحض، بأقسامها الثلاثة التقليدية المتمثلة في جرائم الحرب و جرائم إبادة الجنس البشري و الجرائم ضد الإنسانية، فضلا عن الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي لحقوق الإنسان؛ وفي هذا الإطار أصبح يتحدد نطاق التزام الدولة في منع إفلات مرتكبي الجرائم الدولية من العقاب.