محددات عجز الموازنة العامة في السودان

Abstract AR

من غير المحتمل في المستقبل القريب، أن يستعيد الاقتصاد السوداني استقراره، و المشكلة التي تواجهها الحكومة السودانية الآن هي كيفية استغلال الموارد المالية المتاحة أفضل استغلال لتحقيق معدل نمو اقتصادي معقول، و تلبية الاحتياجات الرئيسة لأغلب المواطنين.

لقد أدت الزيادات الكبيرة في الإيرادات النفطية في العقد الأول من الألفية الثالثة إلى تزايد الإنفاق الحكومي بمعدلات كبيرة نتيجة للدور الكبير الذي تلعبه الحكومة في الاقتصاد الوطني بالرغم من اتجاه الإيرادات النفطية إلى الانحسار عقب انفصال الجنوب عن شمال السودان فإن الإنفاق الحكومي لم ينخفض بنفس المعدل بل حافظ على معدلات نمو موجبة في بعض السنوات المالية من هذا العقد.

إن من أهم أسباب عجز الميزانية هو ارتباط الإيرادات الحكومية بالإيرادات النفطية غير المنتظمة، و تدهور الإنتاج في كافة القطاعات و بالذات القطاع الزراعي، و المتأثرة بعوامل كثيرة تخرج عن السيطرة، كما أن صعوبة تخفيض حجم الإنفاق الحكومي لمواجهة انخفاض الإيرادات أدى استمرار هذا العجز لسنوات عديدة، كذلك فإن نتائج التقدير تشير إلى عدم وجود تأثير للمتغيرات غير النفطية على تخفيض عجز الموازنة العامة حيث أنه بالرغم من إيرادات الرسوم الجمركية و إيرادات الصادرات غير البترولية تمثلان المصدرين الثاني و الثالث للإيرادات الحكومية فإن تأثيرها مازال ضعيفاً.

إن تمويل العجز عن طريق إصدار أدوات الدين العام (قدر صندوق النقد الدولي إجمالي الدين العام للسودان بنهاية عام 2010 م بحوالي 40 مليار دولار) من خلال القطاع المصرفي التجاري أو القطاع الخاص غير المصرفي أو بعض المؤسسات العامة قد يؤدي إلى انخفاض السيولة لدى القطاع الخاص و قد يؤدي إلى رفع هامش العمولة على ودائع العملة المحلية مقارنة بأسعار الفائدة العالمية و التأثير على الائتمان إلى القطاع الخاص أو منافسة الحكومة للقطاع الخاص في الحصول على التمويل.

جميع الدراسات التي تناولت ميزانيات الدول المصدرة للبترول (خاصة دول مجلس التعاون الخليجي) تتفق على كيفية معالجة هذه العجوزات عن طريق تخفيض الإنفاق الحكومي إلى المستوى المقبول لنمو الاقتصاد و استقراره على المدى الطويل بالإضافة إلى تخفيض الإعانات السمعية و الحكومية المباشرة و غير المباشرة مثل إعانات الماء و الكهرباء و المحروقات في معظم دول المجلس و بعض إعانات المواد الغذائية.

إن تزايد دور القطاع الخاص و انحسار دور الإنفاق الحكومي يستدعي البدء ببرنامج مدروس في إطار كل دولة لتخصيص بعض النشاطات التي تقوم بها الحكومة، و قد يكون التخصيص بإيجاد خدمات خاصة موازية للخدمات الحكومية مثل التعميم و الصحة أو من خلال عقود التشغيل و الصيانة و التخلي تدريجياً عن النشاط لصالح القطاع الخاص مثل خدمات الكهرباء و النقل الجوي و بعض الأنشطة الإنتاجية في البترول و البتروكيماويات و المعادن و غيرها.

كما أن فرض أو زيادة الرسوم على الخدمات العامة لتحقيق الكفاءة في الأداء و ترشيد الاستخدام يؤدي للحصول على موارد مالية إضافية لمحكومة تساعدها على مواجهة هذه العجوزات المالية.

إن تخفيض الإنفاق الحكومي و الذي كان يمول في الأغلب من الاقتراض المباشر عبر السندات الحكومية (شهامة) سيساعد على تخفيض عجز الميزانية و يقلل من حاجة الحكومة إلى الاقتراض و يساهم بالتالي في وضع حد لنمو الدين العام الذي أصبحت خدمته تمتص جزءاً غير قليل من الموارد المالية العامة، و من جهة أخرى سيؤدي انخفاض العجز إلى انخفاض الطلب الحكومي على التمويل من البنوك مما يؤدي إلى زيادة قدرة هذه البنوك على إقراض القطاع الخاص و تلبية احتياجاته بشكل أفضل.

لقد قام السودان بتخصيص كافة القطاعات الإنتاجية و الذي من المفترض أن يؤدي لحصول الدولة على إيرادات مالية كبيرة كما أنه سيؤدي إلى تطوير الكفاءة التوزيعية و التشغيلية و الاستغلال الأمثل للموارد في إطار واسع من الحرية الاقتصادية كما قام السودان بزيادة رسوم الخدمات بغرض تغطية جزء من تكاليف تلك الخدمات و تحقيق الكفاءة و تحميل تكلفة الخدمة لمن يستخدمها.

لقد تم في هذه الورقة تصميم و تقدير نموذج إحصائي لمحددات العجز في الموازنة العامة للسودان و ذلك لتحديد المتغيرات الاقتصادية المؤثرة على الموازنة العامة، و لقد أظهرت النتائج و كما كان متوقعاً التأثير الكبير للإيرادات النفطية على عجز الموازنة العامة في السودان، كما أشارت نتائج التقدير القياسي إلى تأثير الكميات المنتجة من النفط على الموازنة العامة في كل من الأجلين القصير و الطويل كذلك كان تأثير أسعار النفط معنوياً في كلا الأجلين، إن للإنفاق الحكومي دورا واضحاً في زيادة العجز في الموازنة العامة و أن الواردات الحكومية تمثل نسبة لا بأس بها من إجمالي الواردات و لهذا تم اختبار تأثير الواردات على الموازنة و كان هذا التأثير واضحاً بالرغم من أن واردات القطاع الخاص تزيد عن الواردات الحكومية.

إن معدلات النمو السكاني في السودان تعتبر من أعلى المعدلات في العالم و هذا يتطلب زيادة في الإنفاق الحكومي على الكثير من القطاعات الاقتصادية المختلفة كقطاعات التعميم و الصحة و العمل و الأنشطة الاجتماعية بالإضافة إلى الإنفاق على بناء البنية الأساسية، و يتضح هذا من تأثر الموازنة العامة في الأجل الطويل سلبياً من النمو السكاني كما أشار التقييم القياسي في الجدول رقم (4).

أن نتائج التقييم القياسي تؤكد على أهمية تشجيع القطاعات غير النفطية ذلك لزيادة الإيرادات الحكومية حيث أن تأثير المتغيرات غير النفطية مازال ضعيفاً و غير معنوي.

و لهذا لابد من مضاعفة الاهتمام بالسياسات الحالية للحكومة السودانية و القائمة على محاولة تخفيض الاعتماد على النفط من أجل تخفيض العجز في الموازنة العامة.

إن المطلوب هو رسم إطار شامل يحدد الموارد المتاحة للحكومة عن طريق تحسين القدرة على تقدير الإيرادات البترولية و تطوير إيرادات بديلة و المتمثلة في الاستفادة من الموارد غير البترولية و تحديد موارد الإنفاق الحكومي و ترشيده حتى يتمكن الاقتصاد الوطني من تحقيق الكفاءة و النمو الاقتصادي.