التجديد و التقصيد في العقيدة عند رواد عصر النهضة : محمد عبده إنموذجا

الملخص AR

يشكل عصر النهضة في العالمين العربي و الإسلامي، أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، بداية عهد جديد في تاريخ هذه الأمة، عهد تنفض فيه رويدا رويدا ثقل السبات الطويل، و علل التخلف المتراكمة.

فمع طلائع البعثات المصرية الى أوربا، حيث يبرز اسم رفاعة رافع الطهطاوي (1873)، رائدا لهذا العهد، بجهده النقدي، و إثاراته الشجاعة الداعية الى استلهام تجارب الأمم المتقدمة، دون النظر الى حاجز الدين أو العرق، لتكون كتاباته، لاسيما كتابه الأكثر شهرة (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) باكورة الاعمال الفكرية و النقدية المبشرة بهذا العهد.

لتلحق به مبكرا جهود و مشاريع إصلاحية رائدة كبرى، استهلها مشروع السيد جمال الدين الأفغاني (1897)، و تلميذه ثم صاحبه و رفيقه الشيخ الامام محمد عبده (1905)، و الشيخ عبد الرحمن الكواكبي (1902)، و الأستاذ إقبال اللاهوري (1938)، و الشيخ عبد الحميد بن باديس (1940)، الذي يمكن عده آخر عمالقة هذه الحقبة، التي عرفت لاحقا بـ (عصر النهضة العربية/الإسلامية الأولى).

وقد حظيت هذه الحقبة الغنية بالعطاء الفكري الجديد، على اختلاف مديات تأثيره و امتداده، باهتمام العديد من الباحثين و الدارسين و المفكرين، من العرب و المسلمين، و مازالت محظ انظارهم و محل اهتمامهم حتى يومنا هذا، و إنها بحق لجديرة بكل اهتمام، حرية بأن تكون موضوع دراسات تحليلية و نقدية مقارنة، لا من اجل تقديسها و تحنيطها، كما هو الشأن مع أثار الكثير من أهل العلم من المتقدمين و المتأخرين، وكما هو شأن الأمم الراكدة، بل أملا في المحافظة على حياتها، و بحثا عن عطاءات متجددة، لا تبدا من حيث ابتدأت، إنما تنطلق من حيث انتهت.

اتخذت تلك الجهود في الإصلاح و التجديد مناهج مختلفة، و اتجهت صوب أغراض متباينة، بحسب تشخيص أصحابها لمواطن العلل، و سبل النهوض، فنهج بعضهم نهج الإصلاح السياسي، و اتجه آخر لبث روح الثورة على الاستبداد، و تركزت جهود أخرى على ميدان التربية الأخلاقية، و اتجه بعض آخر نحو التجديد في الفقه، أو تجديد المنهج في تفسير القرآن، و نحو ذلك.

كما حظي التجديد في علم الكلام و منهج البحث في العقيدة بنصيبه الواضح، لا سيما عند الامام محمد عبده، الذي رأى ان إصلاح العقيدة هو لضرورية لاصلاح واقع الامة و النهوض بها.

و مع أنه كان متأثرا بأستاذه الأفغاني في مباحثه الكلامية الأولى، كما في طريقته الأولى في الإصلاح السياسي، إلا انه نهج بمفرده نهجه الخاص، المتميز، وفق رؤية فلسفية خاصة، و خطى منهجية حققت مراده في التجديد المنشود، و كانت منارا لكثير من الدراسات اللاحقة، سواء لبعض تلاميذه، او للمفكرين الآخرين من عرب و مسلمين، و باستثناء تلاميذه، فغن معظم من أخذ عنه، أو تأثر به، قد أحجم عن ذكر مواضع ذلك التأثر الذي بلغ أحيانا حد الاقتباس الكامل.

فكانت ملاحظتنا هذه دافعا أساسا في تركيز البحث على جهوده هذه، بقدر ما يتسع له مدى البحث، مع الوفاء لاستاذه جمال الدين الأفغاني في المساحات التي اشتركا في دراستها، لا سيما في أفكار (العروة الوثقى).

أما عطاء محمد عبده الآخر فهو اجتهاده الفكري الخاص، ربما باستثناء كتابه (الواردات) الذي كتبه في وقت مبكر نسبيا من عمره، متأثرا بالمباحث الكلامية التي أخذها أو أفادها عنه، وهي مباحث لا نستطيع وصفها بالتجديدية، إلا في حدود ضيقة جدا.

و إذا كنا قد اتبعنا هنا المنهج الوصفي، التحليلي، فلم يكن غائبا عنا أن مبحثا كهذا جدير بدراسة أكثر عمقا، تتسع للمنهج النقدي، و المنهج المقارن، لكننا ادركنا ان ذلك سيخرج بنا عن حدود البحث المتاحة.

وقد تناولنا فيه، بعد مدخل تمهيدي، أهم الفقرات التي تغطي مشروعه المتكامل هذا، بدءا برؤيته و منطلقاته، ثم ميادين بحثه الكبرى ذات الصلة بموضوع العقيدة، في عناوين مستقلة، فتناولنا: روؤيته الإصلاحية، و جهده التأسيس في فلسفة النهضة، و الفقه السياسي، كل ذلك بعرض مكثف، لننتقل الى المبحث الرئيسي حول جهده الإصلاحي، التجديدي، على نطاق العقيدة و علم الكلام الجديد.

مختتمين بنماذج من معالجاته الجديدة لجملة من قضايا العقيدة، ثم خاتمة البحث.